قال الله تعالى:{اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: 39) فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له،مكوَّن بعد أن لم يكن محدث بعد عدمه. فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بـين ذلك من جامد وناطق، الجميع خلقه، وملكه وعبـيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَـيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الفرقان: 59) {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (سبأ: 2) {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد: 4) .
ان الله خلق السموات والأرض، وما بـينهما في ستة أيام. فاختلفوا في هذه الأيام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدّون؟واختلفوا هل كان قبل خلق السموات والأرض شيء مخلوق قبلهما. فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شيء وأنهما خلقتا من العدم المحض. وقال آخرون: بل كان قبل السموات والأرض مخلوقات أُخر لقوله{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (هود: 7) وفي حديث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ كما سيأتي «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ».
وقال الإِمام أحمد بن حنبل: حدثنا بهَز، حدثنا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، حدثنا أبو يَعْلَى بن عطاء عن وَكِيعٍ بن حُدَسٍ عن عمه أبـي رُزَيْنٍ لُقيْطِ بْنِ عَامِرِ العُقَيْلِي أنه قال: «يا رسولَ اللّهِ أينَ كان رَبُّنَا قَبلَ أَن يخلقَ السمواتِ والأرضَ؟» قال: «كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى المَاءُ».
ورواه عن يزيد بن هَاروُنَ عن حماد بن سَلَمَةَ به، ولفظه: أين كان ربنا قبل أن يَخْلُقَ خلقَه؟ وباقيه سواء.
وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع وابن ماجه عن أبـي بكر بن أبـي شيبة ومحمد بن الصباح ثلاثتهم عن يزيد بن هارون، وقال الترمذي حسن.
واختلف هؤلاء في أيها خلق أولاً؟ فقال قائلون: خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما. قال ابن جرير، وبعد القلم السحاب الرقيق. واحتجوا بالحديث الذي رواه الإِمام أحمد، وأبو داود والترمذي عن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ، فَجَرى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» لفظ أحمد. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره (أن العرش مخلوق قبل ذلك) عن عبد الله بن عمروبن العاص قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كَتَبَ اللّهُ مَقَادِيرَ الخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» قالوا فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير. وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجمهور. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم. ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «جئناكَ لنَتَفَقَّهَ في الدين ولنسأَلَكَ عن أوْل هذا الأمر فقال: «كَانَ اللّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ». وفي رواية «معه»، وفي رواية «غيره»: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» وفي لفظ: «ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ». فسألوه عن ابتداء خلق السموات والأَرض. ولهذا قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فأجابهم عما سألوا فقط. ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبـي رُزَيْن المتقدم.
قال ابن جرير وقال آخرون: «بل خلق الله عزّ وجلّ الماء قبل العرش».
ورواه السَدِّي عن أبـي مالك وعن أبـي صالح عن ابن عباس وعن مُرَّةَ عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: «إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء» وحكى ابن جرير عن محمد بن إسحاق أنه قال «أول ما خلق الله عزّ وجلّ النور والظلمة ثم ميز بـينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً».
قال ابن جرير وقد قيل «إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي. ثم خلق بعد الكرسي العرش. ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة. ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء».
سأل رجل عبد الله بن عمرو مما خلق الخلق قال: من النور والظلمة والماء والثرى فقال: أيتِ ابن عباس فسله فأتاه فسأله فقال له مثل ذلك فقال: ارجع إليه فاسأله ممّا خلق ذلك كله؟ فرجع إليه فسأله فتلا: (قال) {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه}(الجاثية: 13).