هذه هي الكرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعنوان هذا المقال هو أشهر عبارة تدور على ألسنة محبي ومزاولي "لعبة الكرة" في هذه الآونة بدءاً من المشجِّع مرورًا باللاعب والمدرب، وانتهاءً بالناقد والمعلق، ومعنى هذه الجملة في عرفهم أن: "الكرة لعبة"، وما دامت كذلك فهي خادعة، ومعايير المكسب والخسارة فيها غير مضمونة، وما أيسر أن تنقلب الموازين في لحظات خاطفة، ضاربة عرض الحائط بما بُذل أو تم من استعداد سابق.
ومع إدراك هؤلاء، وفهمهم لهذا المعنى إلا أن واقعهم العملي يخالف ذلك تمامًا؛ لأنهم لا يقولون هذه الجملة إلا على سبيل التبرير، والتماس الأعذار عند الهزيمة فقط! ولا يعترفون بها عند الفوز، بل دائمًا ما تجد لغات أخرى، وعبارات مختلفة مثل: "التنظيم - التشكيل - التكتيك... " إلى غير ذلك من الألفاظ مما يعكس طبيعة النفسية المزدوجة التي تسكن داخل عقل، وقلب محبي الكرة.
نعم نحن نتفق معهم على أن هذه هي الكرة فعلاً، ولكن نطالبهم بالتزام لوازم ذلك، والتي منها:
1- هذه هي الكرة: كما رأيتم كيف تفعل بأصحابها من إحياء النعرة الجاهلية البغيضة، وإذكاء روح التعصب المدمرة.. !!
وهذه هي الكرة: فيما تبث من عداوة وشقاق بين أبناء الدين الواحد، والأمة الواحدة، وفي المقابل: ما تجمعه تحت لواء التعصب الأعمى، والتقليد المذموم؛ فهلا انتبهنا الي هذا، وأوقفنا هدير هذا الشلال الذي أوشك أن يقضي علي البقية الباقية من وحدة هذه الأمة في ظل مباركة وتصفيق من الأعداء والخونة؟!
2- هذه هي الكرة: كيف تؤمل مشجعها بالنصر والفوز، ثم تخطف منه الأمل في آخر لحظة؛ مسفرة عن موتى بالسكتة القلبية، وآخرين بالاكتئاب، وآخرين، وآخرين... !! إلى قائمة طويلة لا يعلم مداها إلا الله.. فمع كل ما يتشدقون به من بذل للجهد، وغيره؛ فالعبرة عند الكرة بالنتائج، بغض النظر عن البذل في أكثر الأحيان.
3- هذه هي الكرة: في الجمهور التي تجذبه وتأسره؛ لا تجد إلا حثالة الناس من: الفساق وأهل الفساد، أو من أهل الطيش والفراغ، وربما انضم إليهم على خجل بعض أهل العقل، والحلم، ولكنهم الآخرون يفقدون هذا العقل تحت ضغط الإثارة والتشويق، وربما يتفاوت هذا الجمهور فيما بينهم؛ فبعضهم أعقل من الآخر، وبعض الشر أهون من بعض.
4- هذه هي الكرة: في تضخيم توافه الأمور، وسفاهات العقول؛ وإلا فما النفع الذي يعود على الأمة لو فاز فريقها بمباراة فاصلة، أو سجل هدفـًا قاتلاً؟!
بل ماذا لو حصل على كأس العالم على أحسن الأحوال.. ؟!
لا يوجد في ذلك كله سوى الاستمتاع بالحلم، وتمنية النفس، ولكن إذا فشل الحلم كانت الصدمة القاتلة.
5- هذه هي الكرة: وما يتبعها من الآلة الإعلامية الضخمة التي تساهم في تشكيل نفسية الجماهير، وصياغة عقولهم وفق ما يريدون بسحر برَّاق آسر؛ يفوق في أثره وفاعليته مفعول السحر الحقيقي! ثم هي هي الآلة نفسها التي تساهم في شحن الجماهير والتحريش بينهم في حرب ضروس لا تنتهي إلا على الدماء والأشلاء، وهكذا... لم يكتف الشيطان من أهل الكرة فيما وسوس إليهم بها، ولا من إلهاء الناس وشغلهم، بل أوعز إليهم ثانيًا أن يتبعوا ذلك بالأبواق الإعلامية الضخمة، والتي لا تدخر وسعًا في: الكذب، والتضليل، والخداع.
6- هذه هي الكرة: في احتراف سرقة الأوقات من أهلها وتعليق القلوب بها، فكم من مصالح عُطِّلت، وكم من أوقات شُغلت بسبب المباريات؟!
ولقد رأينا في عصرنا الحاضر غرقى ابتلعتهم مياه المحيط بلا منقذ ولا معين؛ لأن الرجل المنوط به مهمة الإنقاذ هو الآخر يريد أن يستمتع بالمباراة، وإن كان على أشلاء البشر!! بل ماذا لو أراد العدو غزو الديار؟؟ أليس من أنسب ساعات الهجوم أن يختار موعد مباراة فاصلة أيضًا؛ لكي يوجِّه فيها ضربة قاتلة يقضي فيها على الأخضر واليابس؟! وقد عايشنا أيضًا مثالاً لذلك في حربنا مع الأعداء.
7- هذه هي الكرة: فيما تسرق من ملايين توجَّه لإنشاء اللعبة، والمحافظة عليها بما يوازي ميزانيات دول!!
أليس من الأولى أن توجَّه هذه الأموال في أوجه الخير والنماء، وبما يعود نفعه وثمرته على الأمة؛ خصوصًا مع انتشار الفقر، والبطالة، وتراكم الديون؟!
ومن ثمَّ فنصيحتنا إلى هذه الجماهير المُغَرّر بها، والتي "لا ناقة ولا جمل" لها في هذا المولد الضخم: أن يكفوا عن مثل هذا الهراء، وأن يفيقوا من الغفلة التي هم غارقون فيها حتي آذانهم؛ فلا هم الذين يلعبون ويستمتعون، ولا هم الذين يكنزون الأموال الضخمة من جرَّاء ذلك اللعب، بل هم في الحقيقة دُمىً يوجهها أصحاب النفوذ، وأهل المصلحة في استمرار مثل هذه الألعاب؛ لأن كره القدم اليوم -دونـًا عن أي لعبة أخري- قد تجاوزت حدود اللعب واللهو إلى ما هو أعظم من ذلك؛ فالانتصار الكروي اليوم يمكن أن يُصنع منه: "مجد سياسي واهم"! أو "شعبية جماهيرية زائفة"! والجاني والضحية في كل ذلك هم: "الجمهور"؛ الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا "لعبة" في أيدي "صانعي هذه الألعاب".