موضوع: وزيـــر وحـــذاء ..! الأربعاء 30 مارس 2011 - 22:18
الإهداء/ الى نوابنا الذين تضاعفت ميزانية أكلهم ، ولا يهم ان اكلنا ام لا فيكفي ان يأكل ممثلينا نيابة عنا . الى من يسعفه الحض في هذه البلاد . إلى ولد عباس ، والى كل الطاقم الحكومي السابق والحالي واللاحق . إلى كل هؤلاء نهدي حذاء
كدأبها منذ شهور تجلس على الرصيف في آخر الشارع تفترش بعض أغطية جاد بها عليها المحسنين ، تظم طفلها إلى صدرها صامته معلقة عينيها بالسماء في شكوى ودعاء دائمين إلى الله ، لا يشغلها عن حالها هذا لا رنة الدنانير التي تسقط في إناء معدني وضعته أمامها ولا حركات المارة وأصواتهم كأنها تمثل حزين وضع على الرصيف . طفلها الذي مضى من عمره العامين في نوم دائم يفترش حجرها شبه ميت لا حراك فيه ، فهو لا يلهو كما الأطفال في سنه حتى أمه غير حافلة بصمته كأنها تريده أن ينام إلى الأبد في حضنها الدافئ وفي واقع الحال لم يكن نوم ذلك الذي هو فيه ولكنه الجوع والمرض والوهن ، كانت هي وطفلها الديكور الوحيد الذي لم يتغير في هذا الشارع ، فقد غيروا بلاط أرصفته وعبدوا طريقه المليء بالحفر وزينوه بالأعلام ولونوا فيه الجدران وأكثروا من حولها وطفلها الملصقات الانتخابية وبقيت هي وطفلها الثابت الوحيد الذي لا يتغير رغم تعاقب الفصول ، كم مرة سالت نفسي كيف تحتمل كل هذا البرد وهي بلا حراك في ذلك المكان وان احتملت فكيف يحتمل طفلها ..؟ كنت أرى قدمي الطفل وهي تطل حافية عارية بها زرقة البرد وانتفاخه ، كان المنظر بالنسبة لي مؤلم جدا لدرجة أني شعرت بالذنب حتى وان لم يكن لي في الأمر كله ذنب فأنا تقريبا مثلها عاطل عن الأمل أعيش على رصيف الحياة أتفرج على أحلامي وهي تودعني إلى المجهول الفرق بيننا أني في آخر النهار أذهب إلى بيتي وهي لا بيت لها . ولأول مرة رايتها تتحرك وشعرت أن الحياة تدب في أوصالها عندما توقفت طوابير طويلة عريضة من السيارات لينزل منها بعض القوم تحيطهم عدسات التصوير فعلمت أنهم تجار السياسة وأصحاب الضمير المستتر في حملة انتخابية يرافقهم فيها شلة من المهرجين الذين يتبعون الولائم ، كانت مضطربة وهي ترى هذه الهالة الكرنفالية من حولها ، ترجل أحدهم يحيطه حرسه وتتبعه عدسات التصوير واتجه نحوها ، ضمت وليدها إلى صدرها بعنف ، فانحنى السيد الأنيق يطمئنها وراح يسترسل في شرح برنامجه الانتخابي : .. سيدتي حزبنا حزب الفقراء يمتلك برنامجا متكاملا ومدروس ركائزه تعتمد على أمنكم وتوفير ظروف الراحة للفقراء والوقوف إلى جنبهم ، من أهدافنا أن نجعل لكم بيوتا دافئة تحميكم من برد الشتاء وحر الصيف وذئاب الشوارع ، ابنك يا سيدتي هو ابننا أيضا .. وقبل أن يكمل كلامه صرخت مذعورة .. لا أنه ابني وأدخلت يدها المرتعشة في كيس رث وأخرجت وثائق كثيرة وراحت تحدث السيد الأنيق بتلعثم .. أنظر سيدي انه ابني وهذه وثائقه كلها ووثائقي أيضا وهو ثمرة زواج شرعي ولكن والده مات .. رد عليها بهدوء : أعلم سيدتي أنه ابنك لا تخشي شيء لن يسلبك أحدا طفلك وإنما اقصد أنه في مثل ابننا ، لذا برنامج حزبنا يهتم بالطفل رجل الغد ونحاول حماية الطفولة ، وأنا هنا سيدتي لأسمع انشغالاتك وألبي طلباتك بصفتي نائب في البرلمان ومرشح لعهدة أخرى واجبي يحتم علي أن أسجل مطالبك وأقدم لك الدعم اللازم ، وتكلم بعض أعوانه الذين تركوا الضمير في ثلاجة مع زجاجات نبيذهم في شبه نغمة واحدة : سيدتي إنها فرصتك ونحن في خدمة المواطن وحقوقك يكفلها الدستور والقانون . بقيت شاخصة مثل الأبله الذي خرج له مارد من قمقمه ليلبي له ما يريد ، ولكنها اختلطت عليها المطالب ، أو كأنها استعجبت أمر هؤلاء العميان كيف أبصروها اليوم وكل يوم يمروا بسياراتهم الفاخرة ولا أحد اهتم لأمرها ، ولم يدم صوت النائب طويلا وقطع عنها تأملاتها لما استدار وأخذ من عند أحدهم علبة صغيرة وسلمها لها : سيدتي هذا حذاء لطفلك أعتقد أن البرد أثر على قدميه الحافيتين ، خذيه إنه له ولا تعتقدي أننا لا نهتم لمعاناتكم أو إننا لا نحس بآلامكم ، إن أحزانكم هي أحزاننا وعضات البرد التي تنهش أجسادكم تنهش قلوبنا وتجعله يعتصر ألما ، ربما يرى البعض أن حزبنا في عهدته المنقضية لم يقدم المطلوب ، لكن فترتنا النيابية الأولى كانت صعبة وحللنا الكثير من المشاكل ، ففي مجال الفلاحة أدخلنا الكثير من الإصلاحات .. وراح يشرح لها المشاريع ويقدم لها أرقام وهي حائرة لا تفهم شيء ، كانت تريد أن تطلب علبة حليب لطفلها الجائع وعلاج وأدوية ، وكلما حاولت أن تقطع عنه شرحه وتقدم لها طلبها وجدت أرقام النائب وشرحه لبرنامج لا تفهم منه شيء ولا تعرف حتى معنى كلامه الغارق في التفاصيل المملة ومشاريع لا تعرف منها شيء ، وكلما أنهى جملة ما تحاول أن تشير إليه بأن الطفل يحتاج إلى رعاية صحية وغذاء تفاجئها عدسات المصورين وكلام النائب أو احد مساعديه ، كانت تريد قوت يومها وحق في الحياة وكان القوم يتكلمون عن كيفية القضاء على البطالة وتطوير الصناعة وبناء دور السينما والمسارح وارتفاع نسبة التضخم والتصدير والاستيراد ،فأخرسها هذا المشهد الغريب وعلمت أن الأجساد من حولها مجرد جثث بلا روح ولا مشاعر ، و لم تشعر إلا وصوت النائب يقول لها لا تنسي سيدتي انتخبي على قائمة حزبنا ، إنه حزب المستقبل والخلاص . وانفض الجمع من حولها لتعود حركة الشارع كما كانت وتبقى هي مثلما كانت ديكورا لشارع تغير كله سواها هي وطفلها شيء واحد فيها تغير هو وجود علبة حذاء جديدة في يدها ، تركوها وحيدة كما كانت دوما وكما ستظل أبدا ، نسوها كلهم واليوم جاؤوا ليطلبوا ودها وصوتها ومن قبل لا أحد تذكرها بعلبة حليب لطفلها ولا حتى سألها من أنت ومن أي ارض جئتِ ؟ هكذا انصرفوا مثلما ينصرف الأحياء عن ميت دفنوه ليطفوا بتعساء آخرين ويقولون لهم نفس الكلام ونفس العبارات بنفس الإشهار ليراها الجميع على نشرات الأخبار. فتحت العلبة فوجدت فيها الجهة اليمنى فقط وتعجبت أين مضت الأخرى رغم أنها لم تفتحها ولم تجد حتى جوارب سرعان ما علمت نفس الزوج الآخر من الحذاء قدموه لطفل آخر ينام في حجر أمه على الرصيف المقابل . حاولت أن تدخل هذا الحذاء في قدم ابنها اليسرى لكنها كانت ضيقة وكلما دفعت قدم الصغير فيها تأوه وتألم ، كان ألمه أنينا وتعابير الم في وجهه ، فقد كان مريضا ورغم كل هذا ألبسته الحذاء ، ولفت قدمه اليمنى في خرقة قديمة ، كان الطفل يشكو الم الجوع والسقم فزاده النائب الم الحذاء الذي ينهش قدمه الرقيقة دون حتى جوارب تقيه البرد وتخفف عنه ضغط الحذاء ، حين تنحدر الشمس نحو المغيب تنهض من مكانها وتطوف بابنها الشوارع باحثة عن لقمة تسد بها جوع الطفل ، كنت أشاهده يمشي بصعوبة بالغة يعرج ويتألم ولا يستطيع حتى أن يبكي بعد أن أنهكه الضعف ، كان يئن فقط ووجه شاحب وجسده نحيل ، قدمه الصغيرة تورمت وانتفخت والزرقة من الم الحذاء وضيقه صارت قاتمة . بعد أيام رايتها تحمل الحذاء وتجلس وحيدة على نفس الرصيف التي دأبت الجلوس فيه على المغيب وهي تردد بصوت مسموع رغم ضعفه خذوا الحذاء وردوا لي طفلي.
مجهولة الحياة
مشاركات : 3721 نقاط التميز : 3574
بطاقة الشخصية الاوسمة: الهواية: نحب ندير كل حاجة تفيد السيرة: