والسنة المبينة له، وقد جرى الناس على أن ينظروا لعلم الحديث نظرة دينية بحتة، فهم لذلك يسقطونه من الحساب إذا ذكروا العوامل التي أدت إلى نهضة العالم الإسلامي، تلك النهضة التي آتت أكلها الشهي منذ الجيل الأول الذي تلا ظهور الإسلام وما زالت تنمو وتعظم حتى بلغت في القرن الخامس الهجري إلى ما لم تبلغه في أمة أخرى قبل ذلك، ولكنهم مخطئون في هذا النظر: ولو شاءوا أن يعرفوا الحقيقة من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في هذا الموضوع، لاقتصروا على التفكير في أن الرسول -صلوات الله عليه وسلامه-، لبث في قومه بعد الرسالة ثلاثاً وعشرين سنة يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقومه هم العرب الذين يعرف الناس أنهم ليسوا بشعب غبي ولا بدائي، وهم في الوقت نفسه كانوا مكتنفين بشعوب حية وبقوم من يهود ونصارى لا يفتأون يعارضون دعوته ويوردون عليها مختلف الإيرادات، فهو لم يقصر دعوته على مسائل الدين فقط، ولم يكن يعلم المسلمين أمور العبادات فحسب بل كان يعلمهم آداب السلوك وأحكام المعاملة، من البيع، والشراء، والصرف، والحوالة، والسلف، والرهن، وما إلى ذلك، ويلقنهم أساليب الحرب، وطرق الحكم، ويرشدهم إلى السياسات المختلفة في علاقتهم مع الدول الموالية والمعادية، ويتولى قسم الأموال بينهم، وتوزيع الأراضي المغلة عليهم، ويعقد المجالس الاستشارية كلما حز به أمر ليقبح لهم الاستبداد، ويقفهم على أسباب حياة الأمم وهلاكها ليعرفوا كيف يحافظون على كيانهم إذا صار الأمر إليهم من بعده، وهكذا لم يدع شاذة ولا فاذة مما به قوام الحياة، ونظام الدنيا إلا علمهم إياه، ألم يقل الكفار لسلمان -رضي الله عنه-: «لقد علمكم نبيكم كل شيء»(1)، بل أنه في تنزلاته معهم كان يخاطبهم بدقائق المعارف ويجيب على أسئلتهم الطبية والطبيعية بما لم ينقضه العلم حتى الآن، ويصحح لهم أغلاط الاخباريين من أهل الكتاب وأغلاط عرفائهم في تفسير الظواهر الجوية ونحوها حتى لقد دعا ذلك اليهود أن يسألوه عن حقيقة الروح {ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [سورة الإسراء:85].
إن مجرد استعراض سريع على هذا النمط، لسيرته -عليه الصلاة والسلام- كاف ليعرف من لم يكن يعرف أن علم الحديث هو جماع المعارف الإسلامية سواء الدينية منها والدنيوية، وإذا كان هذا في عهده -صلى الله عليه وسلم- فما ظنك بهذا العلم وقد تناولته القرائح الخصبة والأفكار الناضجة، وكتب العلماء فيه من الأبحاث القيمة والدراسات الرائعة ما لا يعرف قدره إلا من وقف عليه.
وإذا كان الحديث عن ذلك يطول، فلنكتف بالكلام على أصل هذا العلم والطريقة التي دون بها والجهود التي بذلها العلماء لتمييز صحيحه من سقيمه، وإذا ما يراد بعلم الحديث رواية ودراية، وهو وحده دليل ناهض على عبقرية الفكر الإسلامي الذي يغفل الباحثون عن تتبع آثاره في هذه الميادين.