وهكذا كان عملهم في تدوين الحديث مبادرة علمية بالمعنى العام الذي يشمل علوم الحياة بأجمعها مما وصل إليه اجتهادهم، ووعته عقولهم، ولا يختص ديناً ولا علماً كماً، حتى بدأ عهد الترجمة ونشأت تلك النهضة العلمية الكبرى التي كان علم الحديث من روادها الداعين إليها والمشجعين عليها، فتميزت العلوم حينئذ وسار كل في طريقه من غير تقاطع ولا تدابر، ولا تبجح، فإن ما معها هو العلم دون سواه، بل إن الاعتراف المتبادل وروح التعاون بين الفكر الفلسفي والديني كانا هما التقليد المـتبع الذي أدى إلى وجود فلسفة إسلامية متميزة عن الفلسفة العامة، هي الرشدية التي أثبتت لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني عدم تعارض العلم والدين على ما نجده عند صاحبها أبي الوليد بن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» وغيره من كتبه الفلسفية..
ولا يفهم من هذا أن الحياة الدينية المحض وما يتعلق بها من الحديث، لم يحظ بعناية خاصة من سلف الأمة في حركة التدوين، ولم يكن حافزاً لهم على ما قاموا به في هذا الشأن من عمل جبار، كلا، فإننا عنينا بإبراز الناحية العلمية، وما كان لها من السيطرة على المسلمين في تلك الحركة؛ لأنها كثيراً ما تخفى على الباحثين أو لا يعيرونها الاهتمام اللازم، وإلا فإن الحديث المتعلق بالواجبات والسنن والشعائر الدينية على العموم كان من أول ما اعتنى المسلمون بحفظه وروايته، سواء في ذلك الصحابة والتابعون فمن بعدهم، بل إن من الصحابة من تعاطى كتابته كعبدالله بن عمرو بن العاص وذلك بإذن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسبق عهد التدوين بزهاء قرن كامل، وفي هذا العهد -أيضاً- كان الباعث الديني من أعظم ما حمل أئمة الحديث وحفاظه على جمعه وكتابته، ألا ترى أن منهم من خص بعض كتبه بالمسائل والقضايا الدينية، وقد ألمحنا إلى ذلك فيما سبق، ككتاب «القراءة في الصلاة» للبخاري، وكتاب «شعب الإيمان» للبيهقي، وكتاب «السنن» لأبي داود وإن كان هذا جامعاً بين أحكام العبادات والمعاملات.
(1) سنن أبي داود ج ل ص 3 ومسند أحمد ج 5 ص 437.
(2) صحيح البخاري ج ل ص 24.
(3) «تدريب الراوي» للسيوطي (ص24).
(4) وفيات الأعيان لابن خلكان ج ل ص 17 وفي خصائص المسند للحافظ المديني/ كتب أبي عشرة آلاف ألف حديث ولم يكتب سوادا في بياض إلا قد حفظه. (الخصائص ص 10 طبعه الخانجي (ومعلوم أن المراد ما يشمل طرق الحديث ورواياته والآثار عن الصحابة وما إلى ذلك.
(5) «تدريب الراوي» (ص55).
(6) «شرح الطرفة» لابن عبد القادر الفاسي (الملزمة 11 ص5)، طبع فاس بهامش حاشية ابن عبد السلام كنون.
(7) «صحيح مسلم» باب في أن الإسناد من الدين (ج ل ص 8).
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق
(10) «الحضارة الإسلامية» لآدم متر الترجمة العربية لمحمد عبد الهادي أبو ريدة (ج4 ص319).
(11) يروى عن هذا المعنى حديث اطلبوا العلم ولو بالصين وهو على اشتهاره لا أصل له.